نجومية محمود عبدالعزيز حكاية.. طويلة (الحلقة 5)
ليالي الأنس في فيينا أمضاها نائماً في.. حديقة!
كتب الراحل محمد بديع سربيه عام 1994:
كان النجم محمود عبد العزيز قد هيأ نفسه، بعد انتهاء الفصل الثاني لجلسة أطول بيني وبينه، خصوصاً وأن الحديث عن مشواره الفني كان قد وصل إلى الفصل الأكثر تشويقاً، ولكن ازدحام غرفة النجم الكبير بالزائرين، جعل الحديث عن هذه المرحلة مختصراً، وكان لا بد لي من العودة إلى ما سجلته قبلاً على الورق في هذه المرحلة!
فإن محمود عبد العزيز تابع طريقه إلى فيينا وهو يحلم بليالي الأنس التي صورها له زميله في الجامعة، وبالفعل وصلاها معاً بالقطار ليلاً، ونزلا في محطة اسمها «فيستنان هوف» وأول من شاهدهما قبل نزولهما من القطار شاب مصري سألهما: معاكم سجاير كليوباترا؟ وأجابه محمود: قوي!! وقدم له علبة سجائر، وقال لهما الشاب عندئذ:
- أنتم جايين تعملوا إيه في فيينا؟
وقبل أن يكمل كلامه قال له محمود عبد العزيز: المهم دلوقت، شفلنا مكان ننام فيه!
ودخل الشاب إلى غرفة زجاجية في المحطة عابقة بالدخان والرطوبة، وكان محمود عبد العزيز وزميله يراقبانه وهو يناقش بشدة رجلاً كان يقف وراء مكتب استعلامات، ثم عاد إليهما بعد ربع ساعة ليقول لهما: مافيش ولا غرفة فاضية في أي مكان!!
وتطلع محمود عبد العزيز إلى زميله وسأله: أخوك فين اللي قلت لي عليه واحنا في المركب!!
وأجاب الزميل: ماعرفش عنوانه، وهوه هنا من سبع سنين!!
وأدرك محمود عندئذ بأنه قد شرب المقلب، ولم يجد أمامه هو ورفيق رحلته، بعد أن أخرجا من القطار، إلا أن يضعا حقيبتيهما في خزانة الإيداع المؤقت بالمحطة، ثم يذهبان للنوم في حديقة قريبة، على أمل أن يطلع النهار، ويجدان مكاناً يأويان إليه.
وسألت محمود عبد العزيز: وهل استطعت النوم على أرض الحديقة؟
أجاب: كدت أموت من البرد، وقد فتحت الخزانة التي فيها حقيبتي، مرتين في خلال ساعة، ولبست كل ما فيها من ملابس لكي أقاوم البرد، وما إن طلع الفجر، حتى أسرعنا إلى أحد بيوت الشباب، وطلبنا غرفة، ولكن الرجل الذي كان يقف في الاستعلامات كان يهودياً هندياً، وبمجرد أن عرف أننا مصريين تطلع إلى ساعته وقال: الآن الساعة السادسة، والعمل هنا يبدأ في الساعة السابعة، اقعدوا خارجاً وتعالوا بعد ساعة، وبالفعل، وقفنا هذه الساعة على باب البيت، ونحن نرتعش من البرد!
وسألت محمود عبد العزيز: وبعد الساعة، هل أعطاكما غرفة؟
فأجاب: بعد محاولات منه للتهرب من إعطائنا غرفة، فقط لأننا مصريين، اضطر أمام إلحاحنا وإصرارنا على البقاء إلى أن يأخذنا إلى غرفة تحت الأرض، لها نافذتان علويتان تشبهان نوافذ السجن وفيها ثلاثة أسرة فوق بعضها..
قلت: وقبلتم هذه الغرفة؟
أجاب: أبداً، صرخنا وقلنا له لماذا تعاملنا هكذا وليس كما تعامل أي طالب، فأجاب بوقاحة: لأنكم مصريين و.. حرامية كمان!! وهنا كدنا أن ننزل فيه ضرباً، فخاف منا، ونقلنا إلى غرفة أحسن، ونمنا ونحن في غاية الإرهاق، ولكن بعد ساعة ونصف أيقظونا من النوم، لأن بيوت الشباب لا تسمح لنزلائها بالنوم ما بين الساعة التاسعة صباحاً والخامسة بعد الظهر، لأن المفروض أن نتجول في المدينة ونشم الهواء، واضطررنا نحن الأربعة للخروج للبحث عن عمل!
وسألته: أنتم الأربعة.. مين يعني؟
فأجاب محمود عبد العزيز: أنا ورفيق الرحلة الذي جاء معي من الإسكندرية، وزميل الكلية الذي نصحني بالسفر إلى فيينا، ثم شاب فرنسي وجدناه في الحديقة وصادفناه، وكان نائماً هناك مثلنا!
قلت: وهل وجدتم أعمالاً؟
فأجاب: أيوه، أنا اشتغلت هناك في.. الصحافة!
قلت: حلو.. يعني عملت صحفي، ولكن بأي لغة؟
فضحك عبد العزيز وقال: اشتغلت بالصحافة يعني عملت بياع جرائد، ولكني واجهت عقبة هامة، وهي أن هذا العمل يبدأ في الخامسة صباحاً، وبيوت الشباب لا تفتح لخروج النزلاء منها إلا في السادسة صباحاً..
وسألته: وتغلبت على هذه العقبة طبعاً؟
فأجاب: أيوه، في أول كام يوم، كنا نصحّي حارس الباب في الساعة الخامسة إلا ربعاً، ويتظاهر أحدنا بأن عنده مغصاً، وأننا نريد شراء دواء من الـ: «ايوتيك» أي الأجزخانة «الصيدلية»وصدق الحارس الحكاية في أول يوم، وثاني يوم، وثالث يوم، ولكن في اليوم الرابع فتح لنا الباب وأنذرنا بأنه لن يفتحه بعد اليوم، ومهما حصل، وهكذا اضطررنا إلى اختراع حيلة جديدة، فكنا نشبك أيدينا ببعض ونتسلل إلى خارج البيت من فوق السور، وهكذا أقوم ببيع الجرايد من الساعة الخامسة إلى الساعة التاسعة صباحاً، ثم يكون عليّ أن أجيء في التاسعة مساء إلى الحادية عشرة مساء، وهنا أيضاً واجهتني مشكلة، لأن بيوت الشباب تقفل أبوابها ولا تسمح لأي من نزلائها بالدخول بعد الساعة العاشرة!
قلت ضاحكاً: ما دمت قد تغلبت على العقبة الأولى، فلا شك أنك ستقدر على العقبة الثانية!!
فضحك محمود عبد العزيز وأجاب: أيوه تغلبت عليها!
سألته: إزاي؟
وروى الحكاية..
إن محمود عبد العزيز عرف بأن بيت الشباب لا يفتح لأحد من نزلائه بعد الساعة العاشرة، إلا إذا أثبت النزيل بأنه كان يشاهد الرواية المعروضة في أحد مسارح الأوبرا، وهذا الإثبات يكون بالقسم الباقي من تذكرة الدخول..
ووجد محمود عبد العزيز ورفاقه الحل..
كانوا يذهبون إلى أي مسرح أوبرا، وينتظرون خروج الناس منه، ثم «يلملمون» من على الأرض بقايا التذاكر التي يرميها الخارجون، ثم يذهبون إلى بيت الشباب!
إن الذي كان يحدث في كل ليلة هو أن الحارس كان يفتح لهم الباب ويسألهم: أين كنتم؟
فيقولون له: في الأوبرا..
ثم يبرزون له أعقاب التذاكر..
ولا يستطيع الحارس إلا أن يفتح لهم الباب، وإن كان يستغرب أن يسمح بدخول الأوبرا لواحد يرتدي بنطلون جينز أحمر، وآخر ينتعل الشبشب بدل الحذاء، وثالث ببلوزة حمراء وخضراء، وطبعاً، لم يكن الحارس يجهل أن الدخول إلى الأوبرا لا يكون إلا لمن يرتدون السموكينغ أو البدلات الغامقة!!
وأسأل محمود عبد العزيز: وهل كنت تكسب كثيراً من بيع الجرائد؟
فأجاب: من بيع الجرائد كان الكسب محدداً، ولكنني كنت أكسب أكثر من البقشيش، ومن المبالغ التي يتركها لي الناس زيادة على سعر الجريدة..
وأقول له: وأنت تعاني هذا العذاب في فيينا هل كنت ما زلت مصمماً على أن يطول بعدك عن مصر؟
فأجاب: الحقيقة أنني فكرت بالعودة إلى مصر عندما أقبل شهر رمضان المبارك، وافتقدت فيه الدفء العائلي حول موائد الإفطار الحافلة بأشهى المأكولات، وحتى فنجان الشاي الذي كنت أشربه في فيينا لم يكن له الطعم اللذيذ الذي كنت أحس به وأنا في مصر..
قلت: وما الذي فعلته؟
أجاب: إنني كنت قد انتقلت من السكن في بيوت الشباب إلى شقة استأجرها صديقان لي عند سيدة عجوز، ولم يكن في استطاعتي الحضور إلى الشقة إلا بعد أن تنام هذه السيدة، وأيضاً كان مفروضاً عليّ أن أغادر الشقة قبل أن تصحو، حتى لا تراني، وتطالب بأجر عن سكني مع الصديقين، وما قاسيته من متاعب في هذه الشقة، جعلني أسرع بالعودة إلى مصر، وكان عندي، وأنا في الطريق إليها، تصميم على أن أفعل شيئاً، وخصوصاً بعد أن اكتسبت من السفر تجربة الشقاء من أجل الكسب، وتعلمت أن الذي يعمل يجب أن يصحو باكراً!
وعاد محمود عبد العزيز إلى مصر..
وفكر في العودة إلى الجامعة للحصول على الماجستير ليس حباً في الماجستير نفسه، وإنما لكي يدخل من جديد إلى منتخب التمثيل في جامعة الإسكندرية، على أمل أن يحضر يومياً أي مخرج إلى مسرح المنتخب، ويكتشفه، ويقدمه إلى السينما والتلفزيون!!
ودخل محمود عبد العزيز إلى قسم الدراسات العليا متخصصاً في «النحل» واكتشف منذ الشهور الأولى أن ما درسه عن النحل في السنة الجامعية الرابعة بكلية الزراعة، لم يكن له أهمية، بالنسبة لما بدأ يدرسه من معلومات حديثة جداً وتتناول قوة استشعار النحل!!
وفي الجامعة انتخب محمود عبد العزيز أميناً للجنة الفنية، وعندما اقترب موعد تقديم منتخب الجامعة لمسرحيته الجديدة تداول مع أعضاء اللجنة حول من سيخرج المسرحية، وطلب منه الجميع أن يرشح مخرجاً فقال بدون تردد: محمد فاضل..
قال هذا بالرغم من أنه كان بينه وبين نفسه يعتبره مسؤولاً عما ظل يعانيه من عذاب طوال ثلاثة أشهر في فيينا، وبالرغم من أنه لا يشعر حتى الآن برؤية أي عمل تلفزيوني من إخراجه!!
ووافق الجميع، واختير هو وثلاثة من أعضاء اللجنة للذهاب إلى القاهرة والاتفاق مع محمد فاضل على إخراج مسرحية المنتخب..
إن محمود عبد العزيز كان يشعر بينه وبين نفسه بأن المخرج محمد فاضل لا يحبه، ومع ذلك فقد رشحه لأن يخرج المسرحية، على أمل أن يقنعه هذه المرة بأن يقدمه كممثل في أي عمل من إخراجه!!
كتب الراحل محمد بديع سربيه عام 1994:
كان النجم محمود عبد العزيز قد هيأ نفسه، بعد انتهاء الفصل الثاني لجلسة أطول بيني وبينه، خصوصاً وأن الحديث عن مشواره الفني كان قد وصل إلى الفصل الأكثر تشويقاً، ولكن ازدحام غرفة النجم الكبير بالزائرين، جعل الحديث عن هذه المرحلة مختصراً، وكان لا بد لي من العودة إلى ما سجلته قبلاً على الورق في هذه المرحلة!
فإن محمود عبد العزيز تابع طريقه إلى فيينا وهو يحلم بليالي الأنس التي صورها له زميله في الجامعة، وبالفعل وصلاها معاً بالقطار ليلاً، ونزلا في محطة اسمها «فيستنان هوف» وأول من شاهدهما قبل نزولهما من القطار شاب مصري سألهما: معاكم سجاير كليوباترا؟ وأجابه محمود: قوي!! وقدم له علبة سجائر، وقال لهما الشاب عندئذ:
- أنتم جايين تعملوا إيه في فيينا؟
وقبل أن يكمل كلامه قال له محمود عبد العزيز: المهم دلوقت، شفلنا مكان ننام فيه!
ودخل الشاب إلى غرفة زجاجية في المحطة عابقة بالدخان والرطوبة، وكان محمود عبد العزيز وزميله يراقبانه وهو يناقش بشدة رجلاً كان يقف وراء مكتب استعلامات، ثم عاد إليهما بعد ربع ساعة ليقول لهما: مافيش ولا غرفة فاضية في أي مكان!!
وتطلع محمود عبد العزيز إلى زميله وسأله: أخوك فين اللي قلت لي عليه واحنا في المركب!!
وأجاب الزميل: ماعرفش عنوانه، وهوه هنا من سبع سنين!!
وأدرك محمود عندئذ بأنه قد شرب المقلب، ولم يجد أمامه هو ورفيق رحلته، بعد أن أخرجا من القطار، إلا أن يضعا حقيبتيهما في خزانة الإيداع المؤقت بالمحطة، ثم يذهبان للنوم في حديقة قريبة، على أمل أن يطلع النهار، ويجدان مكاناً يأويان إليه.
وسألت محمود عبد العزيز: وهل استطعت النوم على أرض الحديقة؟
أجاب: كدت أموت من البرد، وقد فتحت الخزانة التي فيها حقيبتي، مرتين في خلال ساعة، ولبست كل ما فيها من ملابس لكي أقاوم البرد، وما إن طلع الفجر، حتى أسرعنا إلى أحد بيوت الشباب، وطلبنا غرفة، ولكن الرجل الذي كان يقف في الاستعلامات كان يهودياً هندياً، وبمجرد أن عرف أننا مصريين تطلع إلى ساعته وقال: الآن الساعة السادسة، والعمل هنا يبدأ في الساعة السابعة، اقعدوا خارجاً وتعالوا بعد ساعة، وبالفعل، وقفنا هذه الساعة على باب البيت، ونحن نرتعش من البرد!
وسألت محمود عبد العزيز: وبعد الساعة، هل أعطاكما غرفة؟
فأجاب: بعد محاولات منه للتهرب من إعطائنا غرفة، فقط لأننا مصريين، اضطر أمام إلحاحنا وإصرارنا على البقاء إلى أن يأخذنا إلى غرفة تحت الأرض، لها نافذتان علويتان تشبهان نوافذ السجن وفيها ثلاثة أسرة فوق بعضها..
قلت: وقبلتم هذه الغرفة؟
أجاب: أبداً، صرخنا وقلنا له لماذا تعاملنا هكذا وليس كما تعامل أي طالب، فأجاب بوقاحة: لأنكم مصريين و.. حرامية كمان!! وهنا كدنا أن ننزل فيه ضرباً، فخاف منا، ونقلنا إلى غرفة أحسن، ونمنا ونحن في غاية الإرهاق، ولكن بعد ساعة ونصف أيقظونا من النوم، لأن بيوت الشباب لا تسمح لنزلائها بالنوم ما بين الساعة التاسعة صباحاً والخامسة بعد الظهر، لأن المفروض أن نتجول في المدينة ونشم الهواء، واضطررنا نحن الأربعة للخروج للبحث عن عمل!
وسألته: أنتم الأربعة.. مين يعني؟
فأجاب محمود عبد العزيز: أنا ورفيق الرحلة الذي جاء معي من الإسكندرية، وزميل الكلية الذي نصحني بالسفر إلى فيينا، ثم شاب فرنسي وجدناه في الحديقة وصادفناه، وكان نائماً هناك مثلنا!
قلت: وهل وجدتم أعمالاً؟
فأجاب: أيوه، أنا اشتغلت هناك في.. الصحافة!
قلت: حلو.. يعني عملت صحفي، ولكن بأي لغة؟
فضحك عبد العزيز وقال: اشتغلت بالصحافة يعني عملت بياع جرائد، ولكني واجهت عقبة هامة، وهي أن هذا العمل يبدأ في الخامسة صباحاً، وبيوت الشباب لا تفتح لخروج النزلاء منها إلا في السادسة صباحاً..
وسألته: وتغلبت على هذه العقبة طبعاً؟
فأجاب: أيوه، في أول كام يوم، كنا نصحّي حارس الباب في الساعة الخامسة إلا ربعاً، ويتظاهر أحدنا بأن عنده مغصاً، وأننا نريد شراء دواء من الـ: «ايوتيك» أي الأجزخانة «الصيدلية»وصدق الحارس الحكاية في أول يوم، وثاني يوم، وثالث يوم، ولكن في اليوم الرابع فتح لنا الباب وأنذرنا بأنه لن يفتحه بعد اليوم، ومهما حصل، وهكذا اضطررنا إلى اختراع حيلة جديدة، فكنا نشبك أيدينا ببعض ونتسلل إلى خارج البيت من فوق السور، وهكذا أقوم ببيع الجرايد من الساعة الخامسة إلى الساعة التاسعة صباحاً، ثم يكون عليّ أن أجيء في التاسعة مساء إلى الحادية عشرة مساء، وهنا أيضاً واجهتني مشكلة، لأن بيوت الشباب تقفل أبوابها ولا تسمح لأي من نزلائها بالدخول بعد الساعة العاشرة!
قلت ضاحكاً: ما دمت قد تغلبت على العقبة الأولى، فلا شك أنك ستقدر على العقبة الثانية!!
فضحك محمود عبد العزيز وأجاب: أيوه تغلبت عليها!
سألته: إزاي؟
وروى الحكاية..
إن محمود عبد العزيز عرف بأن بيت الشباب لا يفتح لأحد من نزلائه بعد الساعة العاشرة، إلا إذا أثبت النزيل بأنه كان يشاهد الرواية المعروضة في أحد مسارح الأوبرا، وهذا الإثبات يكون بالقسم الباقي من تذكرة الدخول..
ووجد محمود عبد العزيز ورفاقه الحل..
كانوا يذهبون إلى أي مسرح أوبرا، وينتظرون خروج الناس منه، ثم «يلملمون» من على الأرض بقايا التذاكر التي يرميها الخارجون، ثم يذهبون إلى بيت الشباب!
إن الذي كان يحدث في كل ليلة هو أن الحارس كان يفتح لهم الباب ويسألهم: أين كنتم؟
فيقولون له: في الأوبرا..
ثم يبرزون له أعقاب التذاكر..
ولا يستطيع الحارس إلا أن يفتح لهم الباب، وإن كان يستغرب أن يسمح بدخول الأوبرا لواحد يرتدي بنطلون جينز أحمر، وآخر ينتعل الشبشب بدل الحذاء، وثالث ببلوزة حمراء وخضراء، وطبعاً، لم يكن الحارس يجهل أن الدخول إلى الأوبرا لا يكون إلا لمن يرتدون السموكينغ أو البدلات الغامقة!!
وأسأل محمود عبد العزيز: وهل كنت تكسب كثيراً من بيع الجرائد؟
فأجاب: من بيع الجرائد كان الكسب محدداً، ولكنني كنت أكسب أكثر من البقشيش، ومن المبالغ التي يتركها لي الناس زيادة على سعر الجريدة..
وأقول له: وأنت تعاني هذا العذاب في فيينا هل كنت ما زلت مصمماً على أن يطول بعدك عن مصر؟
فأجاب: الحقيقة أنني فكرت بالعودة إلى مصر عندما أقبل شهر رمضان المبارك، وافتقدت فيه الدفء العائلي حول موائد الإفطار الحافلة بأشهى المأكولات، وحتى فنجان الشاي الذي كنت أشربه في فيينا لم يكن له الطعم اللذيذ الذي كنت أحس به وأنا في مصر..
قلت: وما الذي فعلته؟
أجاب: إنني كنت قد انتقلت من السكن في بيوت الشباب إلى شقة استأجرها صديقان لي عند سيدة عجوز، ولم يكن في استطاعتي الحضور إلى الشقة إلا بعد أن تنام هذه السيدة، وأيضاً كان مفروضاً عليّ أن أغادر الشقة قبل أن تصحو، حتى لا تراني، وتطالب بأجر عن سكني مع الصديقين، وما قاسيته من متاعب في هذه الشقة، جعلني أسرع بالعودة إلى مصر، وكان عندي، وأنا في الطريق إليها، تصميم على أن أفعل شيئاً، وخصوصاً بعد أن اكتسبت من السفر تجربة الشقاء من أجل الكسب، وتعلمت أن الذي يعمل يجب أن يصحو باكراً!
وعاد محمود عبد العزيز إلى مصر..
وفكر في العودة إلى الجامعة للحصول على الماجستير ليس حباً في الماجستير نفسه، وإنما لكي يدخل من جديد إلى منتخب التمثيل في جامعة الإسكندرية، على أمل أن يحضر يومياً أي مخرج إلى مسرح المنتخب، ويكتشفه، ويقدمه إلى السينما والتلفزيون!!
ودخل محمود عبد العزيز إلى قسم الدراسات العليا متخصصاً في «النحل» واكتشف منذ الشهور الأولى أن ما درسه عن النحل في السنة الجامعية الرابعة بكلية الزراعة، لم يكن له أهمية، بالنسبة لما بدأ يدرسه من معلومات حديثة جداً وتتناول قوة استشعار النحل!!
وفي الجامعة انتخب محمود عبد العزيز أميناً للجنة الفنية، وعندما اقترب موعد تقديم منتخب الجامعة لمسرحيته الجديدة تداول مع أعضاء اللجنة حول من سيخرج المسرحية، وطلب منه الجميع أن يرشح مخرجاً فقال بدون تردد: محمد فاضل..
قال هذا بالرغم من أنه كان بينه وبين نفسه يعتبره مسؤولاً عما ظل يعانيه من عذاب طوال ثلاثة أشهر في فيينا، وبالرغم من أنه لا يشعر حتى الآن برؤية أي عمل تلفزيوني من إخراجه!!
ووافق الجميع، واختير هو وثلاثة من أعضاء اللجنة للذهاب إلى القاهرة والاتفاق مع محمد فاضل على إخراج مسرحية المنتخب..
إن محمود عبد العزيز كان يشعر بينه وبين نفسه بأن المخرج محمد فاضل لا يحبه، ومع ذلك فقد رشحه لأن يخرج المسرحية، على أمل أن يقنعه هذه المرة بأن يقدمه كممثل في أي عمل من إخراجه!!