يوسف وهبي/ عدة أسهم منعت بيع مسرحه وخسر بسببها أربعة آلاف جنيه
كتب الراحل محمد بديع سربيه عام 1973:
ممتع ولذيذ الحديث مع يوسف وهبي..
وهذا الرجل الذي يشدُّك إليه بظرفه وحيويته وضحكته الدائمة التي تضفي عليه الشباب الذي يقول هو أنه ولى منذ نصف قرن على الأقل، ما زال يفكر، يتحرك، ويتطلع إلى الغد بطموح وكأنه ابن عشرين ربيعاً.
وتاريخ يوسف وهبي حافل.. كل صفحة من عمره الفني تحمل أحداثاً مشحونة بالإثارة، وإذا كان الرجل الكبير قد ألف وعرّب في حياته المسرحية عشرات الروايات الدرامية، فلست أظن أن في واحدة من هذه المسرحيات ما في قصة حياته هو من تشويق، ومفاجآت، وأحداث مثيرة تبدأ من طفولته، عندما ولد وفي فمه ملعقة بل ملاعق من ذهب، وهو ابن الباشا الثري، ثم يتغيّر مسار هذه القصة باختياره، فينام على ظهر الباخرة المتجهة إلى إيطاليا، وفي رأسه أحلام تعلّم التمثيل المسرحي..
والممتع في قصة يوسف وهبي أنه يوم أراد أن يكون ممثلاً، قامت عليه قيامة والده الباشا، وطرده من قصوره ومن حياته، ومن الطبيعي أن يحرمه أيضاً من أن يحمل لقب «البكوية» الذي كان في الأيام القديمة حقاً مكتسباً لأبناء الباشوات، ذلك أنه، في نظر الباشا إسماعيل وهبي، والد يوسف وهبي، من الأفضل لعائلة عريقة الحسب والنسب مثل عائلته أن تستغني عن واحد من أبنائها، وتعتبره مفقوداً أو مهاجراً، من أن تقبل باحترافه لمهنة التمثيل، التي كانت توصف في ذلك الزمن من قبيل الازدراء والاحتقار بأنها مهنة.. التشخيص..!
يوسف وهبي، تغلّب عنده حب الفن والتمثيل على الولاء لعائلته وتقاليدها التي كادت أن تخنقه، ومضى في طريق الفن مجرداً من كل شيء، إلا طموحه، فلم يكن يومئذ يملك المال، ولا رضا العائلة، ولا الشهرة، ولا اللقب، ومع ذلك فإنه بعد مسيرة قصيرة، انطلق في دروب النجاح، وحصل بعصاميته ومجهوده على لقب البكوية من الدولة مكافأة له على فنه، بدلاً من أن يناله وراثة من والده الباشا، ثم وبعد نصف قرن من الجهد المسرحي والفني الدؤوب المتواصل، أعطي اللقب الكبير «فنان الشعب»، وهو اللقب الذي لا يناله إلا القلائل من العباقرة في مصر، بعد أن زالت ألقاب الباشوية والبكوية التي كان يحملها أبناء الذوات بالوراثة.
وأسعى دائماً إلى لقاء يوسف وهبي لأستمتع بسحر حديثه، ولأغرف من ينبوعه الذي لا ينضب من الذكريات، والآراء، والصور المشرقة الزاهية، ولكن المصادفة هي التي جعلتني ألتقي به في صباح أحد أيام الأسبوع الماضي، فنستقبل معاً دفء الشمس، ونروح في حديث تمنيت لو أنه يطول ويطول..
كنت في القاهرة، لأعايش جزءاً من الأحداث المصيرية التي تعيشها الأمة العربية في هذه المرحلة، كان جهدي منصباً كله هذه المرة على متابعة الموضوعات السياسية التي تصلح للزميلة «كل شيء»، أعترف بأنني في زيارتي الأخيرة هذه، تركت أمر «الموعد» لبقية الزملاء الذين لا يقصّرون في تغطية الأحداث الفنية، ورحت أنا وراء الأخبار والموضوعات السياسية.
ولكن ذلك لم يكن ليغير من التقليد المحبب إليّ في كل صباح، وهو تناول القهوة في كافيتيريا فندق «شيراتون» حيث أشهد كيف تدب الحياة في جوانب هذا الفندق الكبير، مع توافد الناس، ومع غدو ورواح مضيفات الكافيتيريا الفاتنات اللواتي أتخيلهن وهن يتحركن ويمشين وكأنهن فرقة من راقصات الباليه..
لقاء حار مع يوسف وهبي..
وبالنسبة لكافيتيريا «الشيراتون» فإن الرجل كان وجهاً جديداً عليها، فهو لا يجيء إليها إلا في المناسبات، ولابد أن هناك مناسبة قد جاءت به إلينا في هذا الصباح..
وبالفعل، فقد كانت هناك مناسبة.. فإن عميد المسرح العربي وفنان الشعب انفعل بالبطولات الرائعة التي حقّقها الجندي العربي في المعارك التاريخية التي بدأت يوم السادس من تشرين الأول «أكتوبر» فأراد أن يعبر عن هذا الانفعال بإنتاج أفلام تمثيلية قصيرة لتعرض في التلفزيون، ولكنه كان يريد مادة حية لهذه التمثيليات، أي أنه لم يرض عند تأليفها أن يعتمد على خياله الخصب، وإنما أراد أن يستوحي تفاصيلها من الواقع، خصوصاً وأن رمال سيناء، ومرتفعات الجولان، وقمم جبل الشيخ، شهدت آلافاً من حكايات البطولة التي تفوق في روعتها كل الحكايات التي كانت تخرج من عقول المؤلفين وخيالهم..
وهكذا، فإن يوسف وهبي جاء في هذا الصباح إلى كافيتيريا «شيراتون» لا ليتسلى، ولا ليستمتع برؤية صبا المضيفات وجمالهن، وإنما كان على موعد مع الصحفي الأستاذ محمد شعبان، وهو المراسل الحربي لإحدى صحف القاهرة، ليسمع منه قصص البطولات العسكرية المصرية، ويجعل منها مادة للتمثيليات التي سيقدمها في التلفزيون..
والحديث يتسع مع ازدياد الأصدقاء الذين ملأوا المائدة، بعد أن اجتذبهم إليها حديث يوسف وهبي الممتع العذب، وكلمة من هنا، وتعليق من هناك ويتفق الرأي على أن الوطن العربي عاش في الآونة الأخيرة أحداثاً أشبه بالمعجزات، فمن كان يظن قبل السادس من أكتوبر أن التضامن العربي يمكن أن يبلغ هذا المدى، أو يتوقع أن تزول بين دولهم وقادتهم كل أسباب التفرقة!.
يقول يوسف وهبي: إن الوحدة بين العرب هي الأمر الطبيعي، أما التفرقة فهي الشواذ، إن العربي قد يكون رأسمالياً، أو ماركسياً، أو تقدمياً، أو رجعياً، ولكنه يظل قبل كل شيء.. عربياً..
تعود إلى ذاكرتي قصة عن إيمان يوسف وهبي بعروبته.. يوماً، قبل ثمانية وعشرين عاماً، كان الاحتلال الفرنسي يجثم فوق أرض سوريا ولبنان، وكان الاستعمار البريطاني يشد على خناق مصر وغيرها من الأقطار العربية، وكان الهم الوحيد للاستعمار، فرنسياً كان أم بريطانياً، أن يفصل بين الأقطار العربية، ويمنع أي تقارب سياسي بينها، حتى أن كلمة العرب أو العروبة كانت يومئذ تعرّض قائلها للسجن أو الاضطهاد لأنها تخالف سياسة الاستعمار والاحتلال، وتعتبر بمثابة عبارات تحرّض على الثورة ضدهما..
وفي تلك الفترة جاء يوسف وهبي مع فرقته إلى بيروت لإحياء موسم مسرحي، ولأنه من مصر، التي كان جهد الاستعمار ينصب على محو عروبتها، فإن حزب النجادة في لبنان، وشعاره: «بلاد العرب للعرب»، بادر إلى إقامة حفلة تكريمية في مقره كانت أشبه بمهرجان شعبي..
ووقف يوسف وهبي يخطب في هذا المهرجان، ثم ألهب حماس الجماهير عندما تحدث عن وحدة العرب التي لا يمكن أن تزول، وصاح بأعلى صوته: والله، لو جئت ببذور أوروبية، وزرعتها في صحراء العرب القاحلة لأنبتت أعراباً.
يتذكر يوسف وهبي هذا الموقف، ويضيف إليه أنه عندما جاء إلى بيروت في ذلك الحين صمم على أن يعرض فوق مسرح «التياترو الكبير» مسرحيته الخالدة «الاستعباد» التي كانت تجسد كفاح شعب المغرب دفاعاً عن حريته واستقلاله وعروبته، وذهب يوسف وهبي ومعه نص المسرحية إلى الرقيب ليأخذ الإذن بعرض هذه المسرحية، وقرأ الرقيب المسرحية من بدايتها حتى إسدال ستار النهاية، فالتفت إلى الفنان الكبير وقال له:
يمكن أن أسمح لك بعرض هذه المسرحية، ولكن هناك تدابير لا بد من اتخاذها قبل السماح لك بعرضها!!
ممتع ولذيذ الحديث مع يوسف وهبي..
وهذا الرجل الذي يشدُّك إليه بظرفه وحيويته وضحكته الدائمة التي تضفي عليه الشباب الذي يقول هو أنه ولى منذ نصف قرن على الأقل، ما زال يفكر، يتحرك، ويتطلع إلى الغد بطموح وكأنه ابن عشرين ربيعاً.
وتاريخ يوسف وهبي حافل.. كل صفحة من عمره الفني تحمل أحداثاً مشحونة بالإثارة، وإذا كان الرجل الكبير قد ألف وعرّب في حياته المسرحية عشرات الروايات الدرامية، فلست أظن أن في واحدة من هذه المسرحيات ما في قصة حياته هو من تشويق، ومفاجآت، وأحداث مثيرة تبدأ من طفولته، عندما ولد وفي فمه ملعقة بل ملاعق من ذهب، وهو ابن الباشا الثري، ثم يتغيّر مسار هذه القصة باختياره، فينام على ظهر الباخرة المتجهة إلى إيطاليا، وفي رأسه أحلام تعلّم التمثيل المسرحي..
والممتع في قصة يوسف وهبي أنه يوم أراد أن يكون ممثلاً، قامت عليه قيامة والده الباشا، وطرده من قصوره ومن حياته، ومن الطبيعي أن يحرمه أيضاً من أن يحمل لقب «البكوية» الذي كان في الأيام القديمة حقاً مكتسباً لأبناء الباشوات، ذلك أنه، في نظر الباشا إسماعيل وهبي، والد يوسف وهبي، من الأفضل لعائلة عريقة الحسب والنسب مثل عائلته أن تستغني عن واحد من أبنائها، وتعتبره مفقوداً أو مهاجراً، من أن تقبل باحترافه لمهنة التمثيل، التي كانت توصف في ذلك الزمن من قبيل الازدراء والاحتقار بأنها مهنة.. التشخيص..!
يوسف وهبي، تغلّب عنده حب الفن والتمثيل على الولاء لعائلته وتقاليدها التي كادت أن تخنقه، ومضى في طريق الفن مجرداً من كل شيء، إلا طموحه، فلم يكن يومئذ يملك المال، ولا رضا العائلة، ولا الشهرة، ولا اللقب، ومع ذلك فإنه بعد مسيرة قصيرة، انطلق في دروب النجاح، وحصل بعصاميته ومجهوده على لقب البكوية من الدولة مكافأة له على فنه، بدلاً من أن يناله وراثة من والده الباشا، ثم وبعد نصف قرن من الجهد المسرحي والفني الدؤوب المتواصل، أعطي اللقب الكبير «فنان الشعب»، وهو اللقب الذي لا يناله إلا القلائل من العباقرة في مصر، بعد أن زالت ألقاب الباشوية والبكوية التي كان يحملها أبناء الذوات بالوراثة.
وأسعى دائماً إلى لقاء يوسف وهبي لأستمتع بسحر حديثه، ولأغرف من ينبوعه الذي لا ينضب من الذكريات، والآراء، والصور المشرقة الزاهية، ولكن المصادفة هي التي جعلتني ألتقي به في صباح أحد أيام الأسبوع الماضي، فنستقبل معاً دفء الشمس، ونروح في حديث تمنيت لو أنه يطول ويطول..
كنت في القاهرة، لأعايش جزءاً من الأحداث المصيرية التي تعيشها الأمة العربية في هذه المرحلة، كان جهدي منصباً كله هذه المرة على متابعة الموضوعات السياسية التي تصلح للزميلة «كل شيء»، أعترف بأنني في زيارتي الأخيرة هذه، تركت أمر «الموعد» لبقية الزملاء الذين لا يقصّرون في تغطية الأحداث الفنية، ورحت أنا وراء الأخبار والموضوعات السياسية.
ولكن ذلك لم يكن ليغير من التقليد المحبب إليّ في كل صباح، وهو تناول القهوة في كافيتيريا فندق «شيراتون» حيث أشهد كيف تدب الحياة في جوانب هذا الفندق الكبير، مع توافد الناس، ومع غدو ورواح مضيفات الكافيتيريا الفاتنات اللواتي أتخيلهن وهن يتحركن ويمشين وكأنهن فرقة من راقصات الباليه..
لقاء حار مع يوسف وهبي..
وبالنسبة لكافيتيريا «الشيراتون» فإن الرجل كان وجهاً جديداً عليها، فهو لا يجيء إليها إلا في المناسبات، ولابد أن هناك مناسبة قد جاءت به إلينا في هذا الصباح..
وبالفعل، فقد كانت هناك مناسبة.. فإن عميد المسرح العربي وفنان الشعب انفعل بالبطولات الرائعة التي حقّقها الجندي العربي في المعارك التاريخية التي بدأت يوم السادس من تشرين الأول «أكتوبر» فأراد أن يعبر عن هذا الانفعال بإنتاج أفلام تمثيلية قصيرة لتعرض في التلفزيون، ولكنه كان يريد مادة حية لهذه التمثيليات، أي أنه لم يرض عند تأليفها أن يعتمد على خياله الخصب، وإنما أراد أن يستوحي تفاصيلها من الواقع، خصوصاً وأن رمال سيناء، ومرتفعات الجولان، وقمم جبل الشيخ، شهدت آلافاً من حكايات البطولة التي تفوق في روعتها كل الحكايات التي كانت تخرج من عقول المؤلفين وخيالهم..
وهكذا، فإن يوسف وهبي جاء في هذا الصباح إلى كافيتيريا «شيراتون» لا ليتسلى، ولا ليستمتع برؤية صبا المضيفات وجمالهن، وإنما كان على موعد مع الصحفي الأستاذ محمد شعبان، وهو المراسل الحربي لإحدى صحف القاهرة، ليسمع منه قصص البطولات العسكرية المصرية، ويجعل منها مادة للتمثيليات التي سيقدمها في التلفزيون..
والحديث يتسع مع ازدياد الأصدقاء الذين ملأوا المائدة، بعد أن اجتذبهم إليها حديث يوسف وهبي الممتع العذب، وكلمة من هنا، وتعليق من هناك ويتفق الرأي على أن الوطن العربي عاش في الآونة الأخيرة أحداثاً أشبه بالمعجزات، فمن كان يظن قبل السادس من أكتوبر أن التضامن العربي يمكن أن يبلغ هذا المدى، أو يتوقع أن تزول بين دولهم وقادتهم كل أسباب التفرقة!.
يقول يوسف وهبي: إن الوحدة بين العرب هي الأمر الطبيعي، أما التفرقة فهي الشواذ، إن العربي قد يكون رأسمالياً، أو ماركسياً، أو تقدمياً، أو رجعياً، ولكنه يظل قبل كل شيء.. عربياً..
تعود إلى ذاكرتي قصة عن إيمان يوسف وهبي بعروبته.. يوماً، قبل ثمانية وعشرين عاماً، كان الاحتلال الفرنسي يجثم فوق أرض سوريا ولبنان، وكان الاستعمار البريطاني يشد على خناق مصر وغيرها من الأقطار العربية، وكان الهم الوحيد للاستعمار، فرنسياً كان أم بريطانياً، أن يفصل بين الأقطار العربية، ويمنع أي تقارب سياسي بينها، حتى أن كلمة العرب أو العروبة كانت يومئذ تعرّض قائلها للسجن أو الاضطهاد لأنها تخالف سياسة الاستعمار والاحتلال، وتعتبر بمثابة عبارات تحرّض على الثورة ضدهما..
وفي تلك الفترة جاء يوسف وهبي مع فرقته إلى بيروت لإحياء موسم مسرحي، ولأنه من مصر، التي كان جهد الاستعمار ينصب على محو عروبتها، فإن حزب النجادة في لبنان، وشعاره: «بلاد العرب للعرب»، بادر إلى إقامة حفلة تكريمية في مقره كانت أشبه بمهرجان شعبي..
ووقف يوسف وهبي يخطب في هذا المهرجان، ثم ألهب حماس الجماهير عندما تحدث عن وحدة العرب التي لا يمكن أن تزول، وصاح بأعلى صوته: والله، لو جئت ببذور أوروبية، وزرعتها في صحراء العرب القاحلة لأنبتت أعراباً.
يتذكر يوسف وهبي هذا الموقف، ويضيف إليه أنه عندما جاء إلى بيروت في ذلك الحين صمم على أن يعرض فوق مسرح «التياترو الكبير» مسرحيته الخالدة «الاستعباد» التي كانت تجسد كفاح شعب المغرب دفاعاً عن حريته واستقلاله وعروبته، وذهب يوسف وهبي ومعه نص المسرحية إلى الرقيب ليأخذ الإذن بعرض هذه المسرحية، وقرأ الرقيب المسرحية من بدايتها حتى إسدال ستار النهاية، فالتفت إلى الفنان الكبير وقال له:
يمكن أن أسمح لك بعرض هذه المسرحية، ولكن هناك تدابير لا بد من اتخاذها قبل السماح لك بعرضها!!