مع الصبوحة في باريس على ظهر الـ«باتو موش
تنشر «الموعد» في «شارع النجوم» مجموعة من المقالات التي كتبها رئيس تحرير «الموعد» الراحل محمد بديع سربيه، وهي لا تتبع التسلسل الزمني، بل تتنوع مواضيعها ومضمونها مع تنوّع النجوم الذين رووا ذكرياتهم وتحدثوا ومشوا في «شارع النجوم».
------------------------------
كتب الراحل محمد بديع سربيه عام 1986:
الصدف وحدها هي التي تصنع لي في كل سنة أكثر من لقاء في باريس مع النجمة المطربة صباح، دون أن يكون هناك تواعد بيني وبينها على هذا اللقاء.
وفي باريس الكبيرة، والتي تبدو وكأنها عدة مدن، من الصعب عليّ أن أعرف إذا كانت صباح قد جاءت إليها، إلا إذا كانت تغني في مسرح ما، أو كان يمكن أن أعرف بوجودها في باريس عن طريق إذاعة «مونت كارلو» العربية، التي تستضيف دائماً أي وجه فني عربي يطلّ على العاصمة الفرنسية، لولا أن هذه الإذاعة تُسمع في جميع أنحاء الدنيا ما عدا باريس وحتى الآن لست أعرف الحكمة من ذلك؟
ولكن صباح، تعرف أخبار باريس ومن يوجد فيها وجاء إليها بمجرد أن تدخل بأناقتها المبهرة، وإشراقتها الدائمة، وقوامها النموذجي، في رشاقته، إلى فندق «جورج الخامس» الذي تفضّل الإقامة به لأن نزولها فيه منذ ما يقارب العشرين سنة، وكلما جاءت إلى باريس، قد جعل جميع موظفيه من معارفها، ومن المرحبين دائماً بحلاوة إطلالتها وسخاء يدها.
ولهذا، فإن الصبوحة هي التي تفاجئني دائماً بصوتها وهي تقول لي بالتلفون، وأينما كنت أنزل في بارس بقولها: أنا هنا..
ولقد جئت إلى باريس في نهاية الصيف الذي مضى لأخذ فترة من الراحة بعدما تعددت رحلات العمل إلى أكثر من بلد، وكنت أريد أن أجرب العيش بلا سباق مع الأخبار، ولا لهاث وراء الجديد من المواضيع الصحفية..
وضمتني ذات ليلة سهرة مع بعض العائلات العربية المقيمة في باريس، وتعددت الأحاديث في هذه السهرة عن الأحداث الفنية والاجتماعية التي شهدتها في الصيف الماضي شواطئ «الريفييرا» الفرنسية، و «مربيا» الأسبانية، وكانت هناك تعليقات مختلفة على هذه الأحداث لم تخرج عن نطاق الكلام الذي يقال لإضاعة الوقت.
ولكن، ووسط المناقشات والتعليقات ذكرت إحدى السيدات اسم: صباح!.
إنها قالت بصوت مرتفع:
- أنا سمعت صباح هذا الصيف، في مربيا، ويا عيني على صباح كم كانت جميلة وأنيقة!.
وما أن أنهت السيدة كلامها عن صباح، حتى “اندلعت” مناقشة لها أول وليس لها آخر حول الفرق بين صباح وغيرها من مطربات الجيل، وحول السن الذي بلغته، وأيضاً حول ما إذا ما كان لائقاً بها أن تستمر في الغناء!.
إن السيدة التي أثار كلامها هذه المناقشة التفتت إلي وسألتني:
• أنت تعرف أكثر من غيرك كم عمر صباح الآن!
فقلت:
- لست أهتم بسنها المكتوب في بطاقة هويتها!! وأنا عندما أنظر إليها أراها «شباب» على طول!.
وتدخلت سيدة ثانية لتقول لي:
• ليس ضرورياً أن تذكر لنا كم عمرها؟ ولكن مهم جداً أن تعرف أن صباح أثبتت أنه ليس هناك سن يأس عند المرأة إذا أرادت ألاّ تصل إليه..
وقلت لها:
- حرام عليكِ إن أمام صباح سنوات عديدة قبل أن تصل إلى سن اليأس.
فردت عليّ قائلة:
لا أقصد أن صباح وصلت إلى سن اليأس، وحتى لو وصلت إليه فإن ذلك يدعوني إلى الإعجاب بها أكثر. وما أريد أن أقوله هو أن هناك فنانات في سن ابنة صباح، ومع ذلك فقد بدا عليهن الترهل، وزال بريق الصبا عن وجوههن، فما الذي تفعله صباح يا ترى لكي تكون دائمة الشباب..
قلت:
- سوف أسألها؟
قالت لي:
• متى؟
قلت ضاحكاً:
بكرة..
وطبعاً قلت هذه الكلمة دون أن أعنيها فلم أكن أعرف أين هي الصبوحة لأتصل بها، خصوصاً وأنها في الصيف تمارس هواية السفر، وتكون عصفوراً طائراً يغرّد في أكثر من مكان، وفضلاً عن ذلك فإن ما عرفته منها في آخر لقاء لي معها في لندن هو أنها ذاهبة في رحلة طويلة إلى الولايات المتحدة الأميركية لترى ابنها الطبيب صباح نجيب الشماس!.
ولكن، وكأن صباح سمعت بما كنت قد وعدت به، فلم تشأ أن أخلف الوعد، فقد صحوت في اليوم التالي للسهرة على رنين جرس الهاتف، وما أن رفعت السماعة حتى دوّت ضحكتها المرحة في أذني، وكانت بمثابة المقدمة الموسيقية لنشرة أخبارها التي قالت لي موجزها على أن أسمع منها التفاصيل عندما نلتقي!.
إنها بعد ذلك سألتني:
• شو عامل اليوم؟
قلت:
- أنا الآن في إجازة.. فما الذي تريدين أن نعمله!.
فردت:
• دخلك، الشمس حلوة اليوم في باريس، والأحب إليّ أن استمتع برؤية النهار، ما دام لا عمل فني عندي يجعلني أسهر الليل حتى آخره!.
قلت لها:
- عندي فكرة، فعلى مقربة من فندق «جورج الخامس» يوجد ميناء السفن النهرية المسماة «باتو موش» ما رأيك برحلة في إحدى هذه السفن؟.
فهتفت:
• يا ريت، دائماً كنت أرى هذه السفن التي تمر في الـ«سين»، وأتمنى لو كنت فيها.
قلت:
- إذن نكون فيها هذا النهار، ونتكلم كثيراً..
وبعد ساعات كنا في ميناء الـ«باتو موش» واختارت صباح أن نجلس في الجزء المكشوف من السفينة حتى تستمتع بالشمس وتتفرج بسهولة على باريس من ضفتي السين، خصوصاً وأنها ستكون مجرد سائحة على ظهر السفينة لا يعرفها أحد، وإن كانت أنظار العشرات من السائحين قد شخصت إليها عندما دخلت إلى السفينة.
وبدأ سير “الباتو موش” فوق صفحة نهر السين، ومرت من تحت أول جسر، وثاني جسر، وثالث جسر، والصبوحة متهللة الأسارير، سعيدة بما تراه، وهادئة الأعصاب إلى أبعد حد.
وكنا، صباح وأنا، نجلس في مقعدين متجاورين وبعد فترة من الصمت شغلنا خلالها بالتفرج على ضفتي النهر.
قلت لها:
• تصوري، بالأمس وعدت إحدى السيدات بأن أوجه إليك بالنيابة عنها سؤالاً يتعلق بك، ولم أكن أتوقع أن أكون عند وعدي، وفي نفس الوقت الذي حددته لها، وهو.. اليوم!.
وضحكت الصبوحة وقالت:
- والسؤال هو طبعاً عن.. عمري!
فقلت:
• هذا السؤال أصبحت معتاداً على سماعه في أي مجلس تجيء فيه سيرتك، وردي عليه جاهز دائماً.
فعادت تضحك وتقول:
- ما رأيك في أن أطبع ألوف النسخ عن بطاقة هويتي، وأوزعها على كل من يسأل عن عمري، حتى ترتاح أنت، وأرتاح أنا أيضاً، من الرد على نفس السؤال في كل مرة!
... (البقية على صفحات مجلة "الموعد" النسخة الورقية)
------------------------------
كتب الراحل محمد بديع سربيه عام 1986:
الصدف وحدها هي التي تصنع لي في كل سنة أكثر من لقاء في باريس مع النجمة المطربة صباح، دون أن يكون هناك تواعد بيني وبينها على هذا اللقاء.
وفي باريس الكبيرة، والتي تبدو وكأنها عدة مدن، من الصعب عليّ أن أعرف إذا كانت صباح قد جاءت إليها، إلا إذا كانت تغني في مسرح ما، أو كان يمكن أن أعرف بوجودها في باريس عن طريق إذاعة «مونت كارلو» العربية، التي تستضيف دائماً أي وجه فني عربي يطلّ على العاصمة الفرنسية، لولا أن هذه الإذاعة تُسمع في جميع أنحاء الدنيا ما عدا باريس وحتى الآن لست أعرف الحكمة من ذلك؟
ولكن صباح، تعرف أخبار باريس ومن يوجد فيها وجاء إليها بمجرد أن تدخل بأناقتها المبهرة، وإشراقتها الدائمة، وقوامها النموذجي، في رشاقته، إلى فندق «جورج الخامس» الذي تفضّل الإقامة به لأن نزولها فيه منذ ما يقارب العشرين سنة، وكلما جاءت إلى باريس، قد جعل جميع موظفيه من معارفها، ومن المرحبين دائماً بحلاوة إطلالتها وسخاء يدها.
ولهذا، فإن الصبوحة هي التي تفاجئني دائماً بصوتها وهي تقول لي بالتلفون، وأينما كنت أنزل في بارس بقولها: أنا هنا..
ولقد جئت إلى باريس في نهاية الصيف الذي مضى لأخذ فترة من الراحة بعدما تعددت رحلات العمل إلى أكثر من بلد، وكنت أريد أن أجرب العيش بلا سباق مع الأخبار، ولا لهاث وراء الجديد من المواضيع الصحفية..
وضمتني ذات ليلة سهرة مع بعض العائلات العربية المقيمة في باريس، وتعددت الأحاديث في هذه السهرة عن الأحداث الفنية والاجتماعية التي شهدتها في الصيف الماضي شواطئ «الريفييرا» الفرنسية، و «مربيا» الأسبانية، وكانت هناك تعليقات مختلفة على هذه الأحداث لم تخرج عن نطاق الكلام الذي يقال لإضاعة الوقت.
ولكن، ووسط المناقشات والتعليقات ذكرت إحدى السيدات اسم: صباح!.
إنها قالت بصوت مرتفع:
- أنا سمعت صباح هذا الصيف، في مربيا، ويا عيني على صباح كم كانت جميلة وأنيقة!.
وما أن أنهت السيدة كلامها عن صباح، حتى “اندلعت” مناقشة لها أول وليس لها آخر حول الفرق بين صباح وغيرها من مطربات الجيل، وحول السن الذي بلغته، وأيضاً حول ما إذا ما كان لائقاً بها أن تستمر في الغناء!.
إن السيدة التي أثار كلامها هذه المناقشة التفتت إلي وسألتني:
• أنت تعرف أكثر من غيرك كم عمر صباح الآن!
فقلت:
- لست أهتم بسنها المكتوب في بطاقة هويتها!! وأنا عندما أنظر إليها أراها «شباب» على طول!.
وتدخلت سيدة ثانية لتقول لي:
• ليس ضرورياً أن تذكر لنا كم عمرها؟ ولكن مهم جداً أن تعرف أن صباح أثبتت أنه ليس هناك سن يأس عند المرأة إذا أرادت ألاّ تصل إليه..
وقلت لها:
- حرام عليكِ إن أمام صباح سنوات عديدة قبل أن تصل إلى سن اليأس.
فردت عليّ قائلة:
لا أقصد أن صباح وصلت إلى سن اليأس، وحتى لو وصلت إليه فإن ذلك يدعوني إلى الإعجاب بها أكثر. وما أريد أن أقوله هو أن هناك فنانات في سن ابنة صباح، ومع ذلك فقد بدا عليهن الترهل، وزال بريق الصبا عن وجوههن، فما الذي تفعله صباح يا ترى لكي تكون دائمة الشباب..
قلت:
- سوف أسألها؟
قالت لي:
• متى؟
قلت ضاحكاً:
بكرة..
وطبعاً قلت هذه الكلمة دون أن أعنيها فلم أكن أعرف أين هي الصبوحة لأتصل بها، خصوصاً وأنها في الصيف تمارس هواية السفر، وتكون عصفوراً طائراً يغرّد في أكثر من مكان، وفضلاً عن ذلك فإن ما عرفته منها في آخر لقاء لي معها في لندن هو أنها ذاهبة في رحلة طويلة إلى الولايات المتحدة الأميركية لترى ابنها الطبيب صباح نجيب الشماس!.
ولكن، وكأن صباح سمعت بما كنت قد وعدت به، فلم تشأ أن أخلف الوعد، فقد صحوت في اليوم التالي للسهرة على رنين جرس الهاتف، وما أن رفعت السماعة حتى دوّت ضحكتها المرحة في أذني، وكانت بمثابة المقدمة الموسيقية لنشرة أخبارها التي قالت لي موجزها على أن أسمع منها التفاصيل عندما نلتقي!.
إنها بعد ذلك سألتني:
• شو عامل اليوم؟
قلت:
- أنا الآن في إجازة.. فما الذي تريدين أن نعمله!.
فردت:
• دخلك، الشمس حلوة اليوم في باريس، والأحب إليّ أن استمتع برؤية النهار، ما دام لا عمل فني عندي يجعلني أسهر الليل حتى آخره!.
قلت لها:
- عندي فكرة، فعلى مقربة من فندق «جورج الخامس» يوجد ميناء السفن النهرية المسماة «باتو موش» ما رأيك برحلة في إحدى هذه السفن؟.
فهتفت:
• يا ريت، دائماً كنت أرى هذه السفن التي تمر في الـ«سين»، وأتمنى لو كنت فيها.
قلت:
- إذن نكون فيها هذا النهار، ونتكلم كثيراً..
وبعد ساعات كنا في ميناء الـ«باتو موش» واختارت صباح أن نجلس في الجزء المكشوف من السفينة حتى تستمتع بالشمس وتتفرج بسهولة على باريس من ضفتي السين، خصوصاً وأنها ستكون مجرد سائحة على ظهر السفينة لا يعرفها أحد، وإن كانت أنظار العشرات من السائحين قد شخصت إليها عندما دخلت إلى السفينة.
وبدأ سير “الباتو موش” فوق صفحة نهر السين، ومرت من تحت أول جسر، وثاني جسر، وثالث جسر، والصبوحة متهللة الأسارير، سعيدة بما تراه، وهادئة الأعصاب إلى أبعد حد.
وكنا، صباح وأنا، نجلس في مقعدين متجاورين وبعد فترة من الصمت شغلنا خلالها بالتفرج على ضفتي النهر.
قلت لها:
• تصوري، بالأمس وعدت إحدى السيدات بأن أوجه إليك بالنيابة عنها سؤالاً يتعلق بك، ولم أكن أتوقع أن أكون عند وعدي، وفي نفس الوقت الذي حددته لها، وهو.. اليوم!.
وضحكت الصبوحة وقالت:
- والسؤال هو طبعاً عن.. عمري!
فقلت:
• هذا السؤال أصبحت معتاداً على سماعه في أي مجلس تجيء فيه سيرتك، وردي عليه جاهز دائماً.
فعادت تضحك وتقول:
- ما رأيك في أن أطبع ألوف النسخ عن بطاقة هويتي، وأوزعها على كل من يسأل عن عمري، حتى ترتاح أنت، وأرتاح أنا أيضاً، من الرد على نفس السؤال في كل مرة!
... (البقية على صفحات مجلة "الموعد" النسخة الورقية)