عبـد الحـليم حافـظ .. إنه القدر والمكتوب.. يا ولدي
في الثلاثين من شهر آذار «مارس» من كل عام يتجدّد حزن الجمهور العربي على رحيل العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ الذي أسعد الملايين بأغانيه بينما لم تكن حياته هو سعيدة، ورغم ألم مرض «البلهارسيا»، إلا أن العندليب كان يقاوم من أجل فنه وجمهوره، ومع اقتراب ذكرى رحيل العندليب، تنشر «الموعد» مقالة كتبها رئيس تحرير «الموعد» محمد بديع سربيه عام 1977 يشرح فيها مأساة عبد الحليم حافظ وخصوصاً في السنوات الأخيرة من حياته.
* * *
التقيت بالعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ في أحد أيام الصيف الماضي في كافيتيريا «شيراتون»، وكانت الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، فقلت له ممازحاً:
• ما هذا النشاط: هذه أول مرة أراك فيها صاحياً في مثل هذه الساعة، وأنا تعوّدت على رؤيتك تسهر الليل وتنام في النهار!
وردّ عليّ العندليب الأسمر قائلاً:
- طبعاً، أنت تتصوّر بأنني صحوت على الأكثر في الساعة الثانية عشرة ظهراً، ثم جئت الى هنا..
قلت له:
• طبعاً.. أليس صحيحاً ما تقول؟
وأجاب عبد الحليم:
- حتى أصحّح لك معلوماتك.. أعرّفك بأنني ما زلت ساهراً حتى الآن ولم أنم بعد..
وكدت أشهق من الدهشة وأنا أقول:
• مش معقول؟
فأخذ رشفة من فنجان قهوة أمامه وقال:
- ده اللي حصل.. وأنا دلوقت رايح أنام!
وقبل هذا اللقاء الصدفة، والحديث الذي دار فيه بيني وبين العندليب الأسمر كنت أراه كل ليلة في فندق «شيراتون» يزور أصدقاءه العرب من نزلاء الفندق، ويقضي عندهم سهرات تمتدّ الى شروق الفجر، وكنت أنا والكثيرين من أصدقائه وزملائه نقسو في انتقاده ونقول أحياناً أمامه، وأحياناً بين أنفسنا، إن فناناً مثله يعاني من المرض، ليس من حقه أن يشكو ويتألم ما دام يرهق صحته بهذا الشكل، ولا يحاول التغلب على المرض بالراحة.
وفي ليلة «شم النسيم» من العام الماضي، وعندما أطلق العندليب الأسمر قصيدته الغنائية الخالدة «قارئة الفنجان» وكان قلقاً ومرهف الحسّ وهو يواجه الجمهور، كان التفسير الوحيد الذي قاله الزملاء والأصدقاء لهذا القلق هو أنه حين يُغرق نفسه في السهر والإرهاق الى هذا الحد لا بد وأن يكون متعباً.. وخرجوا من هذا التفسير الى لومه بشدة لأنه لا يرحم نفسه، ويبدو وكأنه مصمم على الإنتحار.
وبالأمس، عندما فاجأني خبر وفاة عبد الحليم حافظ، قلت للدكتور عاصم العيسوي:
• يا دكتور، لقد قال لي عبد الحليم قبل شهور إنه شفي تماماً من داء «البلهارسيا» الذي رافقه منذ طفولته، فهل تعتقد أن إرهاقه لنفسه بالسهر الطويل هو الذي أدى به الى النكسة الصحية التي أودت بحياته.
وأجاب الطبيب الشاب:
- حتى لو شفي المصاب بالبلهارسيا فإن هذا الداء لا بد وأن يترك آثاره وبصماته على الكبد بشكل ألياف تعلق به.
وسـألته:
• وكيف يمكن التخلص من هذه الألياف؟
أجاب:
- هنا الصعوبة..
وعدت بإلحاح أكثر أسأله:
• ولكن، لو أن عبد الحليم حافظ قد أراح نفسه من التعب والإرهاق، فهل كانت آلام الكبد تتضاءل أو يكون هناك أمل في شفائه منها كما شفي من البلهارسيا؟
وابتسم الدكتور عاصم العيسوي وقال:
- لو أن المرحوم عبد الحليم حافظ قد نام عشرين ساعة في اليوم، ووفّر لنفسه كل أسباب الراحة، لما كان لذلك أي أثر في شفاء كبده.. إن مرضى القلب قد تفيدهم الراحة، ويقلّل «الريجيم» من خطورة إصابتهم، ولكن بالنسبة لمن أصيبوا في كبدهم كما أصيب عبد الحليم، فإن الإرهاق لا يزيد في خطورة مرضهم، وبالتالي فإن الراحة لا تؤدي الى شفائهم منه!
وأمام هذه المعلومات الطبية التي لم يكن عندي أدنى فكرة عنها، بدأت أحسّ بأنه لم يكن من حق أحد أن يلوم عبد الحليم حافظ أو يتهمه بالتفريط في صحته، فالذي لا شك فيه أن العندليب الراحل، وهو على قدر كبير من الذكاء والفهم، كان يعرف حقيقة مرضه، وأيضاً كان متأكداً من أن الأمل ضئيل جداً في شفائه منه، ومن هنا فقد كان يطيل السهر، لا حباً بالسهر نفسه، وإنما لكي لا يبقى وحيداً في فراشه والليل ساكن من حوله، فلا يستطيع إلا أن يعايش مأساته، ويفكر في مرضه، وعندئذٍ فلا بد من أن ينتابه اليأس الذي لم يكن العندليب يريد أن يلفّ حياته.
ومرة قال لي:
• أنا لا أعرف الى متى أعيش، فإن الأعمار بيد الله، ولكنني أحسّ بأن عمري لن يكون طويلاً، ولهذا أريد أن أسعد نفسي في السنوات التي أعيشها!
وعرفت الآن سراً آخر.
ذات مرة التقى عبد الحليم حافظ في جنيف بأحد كبار أطباء الكبد الفرنسيين ولم يكن هذا الطبيب يعرف العندليب الأسمر أو يعلم شيئاً عن حقيقة المرض المصاب به ووجدها عبد الحليم فرصة، فسأل الطبيب:
• كم سنة يمكن أن يعيش مريض مصاب كبده بالتليّف؟
أجاب الطبيب:
- يمكن أن يصمد الكبد بالعلاج خمسة عشرة سنة على الأكثر بعد ظهور الأزمة الأولى له، أما الشفاء التام فأتصوّر، حسب خبرتي ومعلوماتي، أنه مستحيل.
وبدأ عبد الحليم حافظ يحسب الأيام والسنوات ويعدّها، فإن أول أزمة كبد تعرّض لها كانت في العام 1955، عندما بدأ فجأة ينزف دماً من فمه، وإذا كان الكبد، كما قال الطبيب الفرنسي، يصمد خمسة عشر عاماً، فمعنى هذا أن كبد العندليب لن يصمد بعد العام 1970، وأن عليه بعد هذه السنة أن يستعد لمجابهة الأخطار، ويواجه احتمالاً بألاّ يقدر العلاج على توفير الصمود لكبده.
وتذكّرت شيئاً..
إن آخر فيلم مثّله عبد الحليم حافظ كان في عام 1969، وكان الفيلم «أبي فوق الشجرة» ومن يومها عُرضت مشاريع أفلام كثيرة على العندليب الراحل، فكان يدرسها أولاً، ويوافق على تمثيلها ثانياً، ويعدّها للتنفيذ ثالثاً، ولكن، وفي اللحظة الأخيرة يؤجل البدء في تنفيذها.
كان أمامه مشروع فيلم إسمه «تمضي الأيام» ورُشّح لتمثيل دور البطولة أمامه في هذا الفيلم النجمة سعاد حسني، وهي الوحيدة بين بطلات السينما التي لم يمثّل معها أي فيلم كامل بالرغم من الصداقة الحميمة التي كانت تربط بينها وبينه، وبالرغم من أن تألقها على الشاشة انطلق من فيلمها «البنات والصيف» الذي مثّلت في إحدى قصصه الثلاث دور شقيقة العندليب.
وأيضاً كان أمامه مشروع فيلم «لا» الذي كتب قصته الأستاذ مصطفى أمين وقد أعجب عبد الحليم بشخصية بطل القصة، وأراد فعلاً أن يمثّلها وكلّف المخرج الجزائري أحمد الراشدي بأن يعدّ السيناريو لها، ويستعد لإخراجها لتكون على المستوى العالمي، ولكن حماسه فتر أخيراً، بحيث لم يعد يلتقي بالمخرج إلا في فترات متباعدة، وبالصدفة.
... (البقية على صفحات مجلة "الموعد" النسخة الورقية)